ترجمة الشاعر أبو القاسم الشّابّي بقلم شقيقه محمد الأمين

ترجمة الشاعر أبو القاسم الشّابّي بقلم شقيقه محمد الأمين / ديوان أغاني الحياة، الدار التونسية للنشر ، 1970

هو من أبناء القرن العشرين الذين نشأوا فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثّانية ، أيام كان العالم العربي يتعثّر بين حاضره الأليم وماضيه القريب المنقوص ، ودعاة الإصلاح وأنصار الجديد في تلك الفترة الانتقالية ،إنما يلقون جحودا وأذي لا تزيدهما سيطرة الغرب على الشّرق ، وشموخه بحضارته ، ووثوقه بمصيره ، إلا احتداما وسطوة لدى فريق واسع من الخاصّة والعامّة على السّواء .

بيد أن الشّاعر لم يتردّد كثيرا حتى عرف سربه فانضمّ إليه ، ثم صدح محلّقا إلى أن اختطفته يد المنون وهو في ريعان الشّباب . و كان والده (1) من خرّيجي الأزهر  ومن مجازيه ، وبه درس أوّلا ، فأقام بمصر  في أوائل هذا القرن سبع سنين ، ثم درس بتونس بجامع الزّيتونة سنتين ، حصل بعدهما على « التّطويع (2) » ، ثم سمّي قاضيا شرعيّا لسنة من ولادة بكره أبي القاسم فتصرّف في قضاء كثير من البلدان التونسيّة .

كان يقضي يومه بين المحكمة والمسجد والمنزل حيث يتبسط مع أهله، ولقد نشأ أبو القاسم في سنّي تكوينه الفكري والخلقي في كنف رعايته الصّالحة يقتبس من علمه وآدابه . كان رحمه الله صادق التّقى ، قويّ العقيدة لا يخشى في الحقّ لومة لائم ، له غيرة على شؤون المسلمين والإسلام ، تنفعل نفسه بما يجري آنذاك من أحداث بالشّرق العربي وطرابلس الغرب.

قال الشّاعر متحدّثا عن أبيه : « إنه أفهمني معاني الرّحمة والحنان ، وعلمني أن الحقّ خير ما في هذا العالم وأقدس ما في هذا الوجود (3) »

لم ينشأ أبو القاسم بمسقط رأسه، فقد خرج عنه في سنته الأولى ولم يعد يعرفه إلّا قليلا ، أثناء قدَمَتَيْن أقام فيهما نحوا من ثلاثة أشهر ، الأولى عند ختانه في الخامسة من عمره، والثّانية زائرا، وقد استغرقت جولة الأسرة عشرين سنة ضربت في بحرها بالبلاد التّونسية طولا وعرضا ، متنقّلة من قابس إلى سليانة فتالة ، ومن مجاز الباب إلى رأس الجبل فزغوان . وبين هذه المدن من الأميال ما يقدّر بالمئات أحيانا، وعلى نسبة ذلك اختلاف العادات واللّهجات والمشاهد الطبيعيّة . فلم تكن واحة قابس كبسائط مجاز الباب يغمرها الحصيد، ولا هذه كبساتين رأس الجبل ، أو كجبل زغوان یکسوه شجر الصّنوبر ، ولم يكن حرّ قابس كثلوج تالة ، ولا حياة الفلاّحين بمجاز الباب كحياة صيادي البحر بقابس أو  رأس الجبل ، ولا طباع أهل الشّمال كطباع أهل الجنوب .

هذه مراحل أبي القاسم وشبابه عملت على تضخّم تجربته ، وتدفّق شاعريته، وازدهار  ریشته ، بيد أن الشّاعر أفاد ما يفيده كل عابر سبيل متيقّظ واعٍ، إذا ما استقرّ بأرض كان ربيبـها لا ابنها الأصيل . فأطلقه هذا المصير من حدود البيئة الضّيقة وأكسبه « تونسيّة » إنسانية الآفاق.

قدم أبو القاسم إلى العاصمة سنة 1339 ه – 1920 م. للدّراسة بجامع الزّيتونة في الثّانية عشرة من عمره، وقد تكوّن سريعا، وقال الشّعر  باكرا (4). كوّن لنفسه ثقافة واسعة عربية بحتة جمعت بين التراث العربيّ في أزهی عصوره وبين روائع الأدب الحديث بمصر والعراق وسوريا والمهجر ، ولم يكن يعرف لغة أجنبية، فتمكّن بفضل مطالعاته الواسعة من استيعاب ما تنشره المطابع العربية عن آداب الغرب وحضارته . وكانت أوّل نشراته في الصفحة الأدبية التي كانت ترتّبها « النهضة » كل اثنين – سنة 1342 – 1926 م. وفي سنة 1346 ه – 1927 م. ظهر  شعره مجموعا في المجلد الأول من كتاب « الأدب التونسي في القرن الرّابع عشر »(5)  وفي نفس السّنة ألقى بنادي قدماء الصّادقية محاضرة حول و الخيال الشّعري عند العرب و كانت مادّة الكتاب الذي نشر  بنفس العنوان في السّنة التّالية .

وإنك لتجده وهو يواصل دراسته ويضع شعره في صميم حرکات الإصلاح التي كانت تعتلج بها النّفوس آنذاك من بعث لحركة الشّبان المسلمين ودعوة لتجديد الجهاز الثّقافي التقليدي ، ومناصرة لحركة تحرير المرأة (6) ودعوة للتجديد في الأدب تحتلّ المكان الأول من نفسه وقد أحدث كتابه « الخيال الشعري »، الضجّة الكبرى واستُهدف الشّاعر بسببه لحملة صحفيّة عنيفة ثبت لها ثبات الرّائد المؤمن بما يقول .

نشرت هذه الآثار في حياة والده ، فلم ينكر عليه مذهبه ، ووجد الشاعر في تسامح أبيه ما يعزّز جانبه ويثبت خطاه .

وفي هذه الأثناء (سنة 1929) نُكب بوفاة والده المحبوب ، ولقد رافقه عليلا من بلد «زغوان» إلى «توزر » مسقط رأسه ، وتجرع غصص مرضه ، وطفحت الكأس بموته وهو في الخمسين من عمره ، فاضطلع بأعباء عائلة كبيرة واختار طريقا وعرا ، فإنه – ضنا بحرية الأديب والشاعر – لم يلج باب الارتزاق من المناصب الحكومية ورضي بحياة بسيطة على رأس أسرته بتوزر حيث تزوّج ، ولعلّ هذا الذي عناه بعضهم حين قال : « كنا نرى في نفسه الزّكية مثال القناعة في أفضل ألوانها والطّموح على خير وجوهه (7) .

وفي السّنة نفسها أصيب بداء تضخّم القلب ، وهو في الثانية والعشرين من عمره ، بيد أنه رغم نهي الطبيب لم يقلع عن عمله الفكري ، وواصل إنتاجه نثرا وشعرا . وقد نشرت له سنة 1933 بمجلة «أبولو » المصرية قصائد عملت على التعريف به في الأوساط الأدبية بالشّرق العربي ، وإلى أبي القاسم أوكل صديقه الدكتور أحمد زكي أبو شادي تصدير  ديوانه  « الينبوع » .

لم يكن الشّاعر المريض يغادر  توزر إلا في الصّيف ويقصد المصطافات الجبليّة كعين دراهم بالشّمال التونسي سنة 1932 ، والمشروحة ببلاد الجزائر  سنة 1933 .

وشرع أثناء مصيف سنة 1934 في جمع دیوانه  » أغاني الحياة » ، بنيّة طبعه بمصر (8) فانتسخه بنفسه بحامة الجريد ، مستعينا ببعض أدبائها ، لكن باغتته المنيّة وحالت دون ما نوى ، فقد انتابه المرض بغاية الشدّة وقصد تونس  يوم 26 من أغسطس سنة 1934 وبها توفي (9) سحرا يوم 9 أكتوبر سنة 1934 ، ثم نقل جثمانه إلى بلده « توزر ، حيث قبره .

نحيف الجسم ، مديد القامة ، قویّ البديهة ، سريع الانفعال ، حادّ الذهن تكفكف رقّة طبعه من غرب عاطفته وحدّة ذهنه يراه أصدقاؤه ، بشوشا ، کریما ، ودیعا ، متأنّقا ، طروبا لمجالس الأدب يحبّ الفكاهة الأدبية (10) ويراه من لم يخالطه حييا محتشما ويعرف منه هؤلاء وأولئك صراحة حازمة قويّة يبديها لخاصّة خلطائه في غير ما تحرّج متى اجتمع بهم ويجاهر بها العموم في شعره ونثره . وكان محبّا لبلاده، صادق الوطنية (11) يؤمن بأن لقادة الفكر رسالة إنسانية سليمة حاول جهده أن يحققها في أثناء حياته القصيرة قولا وعملا.

تونس في 12 من افريل سنة 1954 .

م.ا. ش

 

(1) هو المرحوم الشيخ محمد بن بلقاسم الشّابّي سليل أسرة . الشّابّيّة ، التي تمحّضت للعلم بعد أن أنجبت في القرنين العاشر والحادي عشر هـجري، من حملة القلم والسّيف، من اكتسبت  بمساعيهم مجدا سجله التاريخ التونسيّ .

 (2) هي اجازة نهاية الدّراسة بالكلية الزّيتونية في ذلك العصر

 (3) كتاب الخيال الشعري عند ا العرب ، صفحة الإهداء – وقد أهداه لوالده .

(4) قصيدة (يا حبّ) التي أثبتناها  بالديوان ، نظمها سنة 1342 ه – 1923م. وقد وصف صديقه الاستاذ زين العابدين السنوسي طريقته في وضع قصائده ، فقال : (اذا رجعنا إلى أدبائنا المعاصرين عرفنا أن المرحوم أبا القاسم الشّابّی لم بکن  پستنزل الشّعر ولكنه كان يفيض عليه مهاجمة تمنعه الرّاحة والنّوم، فيصوغ القصیدة بیتا بیتا و بتهجّي كل واحدة بمفردها في ليله وظلامه الدّامس ولا تفارقه تلك الحال حتى يستفرغ ما جاش بضميره شعرا محکما، ثم ينام مطمئنا كأنما نزع عن ظهره عبئا , حتى اذا استيقظ في الغد متأخرا ووجدها على طرف لسانه و نسخها من ذاكرته مطمئنّا، وربما طاش عنه الشّطر فلا يرضى أن يعوّضه أبدا، وتبقى القصيدة بتراء في جيبه يقرؤها علينا بتراء لا يجسر على ترقيعها أبدا . إلا أن يتذكرها ولو بعد اشهر فيتمّها و ينسخها في كنّاشة ،

 (5) تأليف الاستاذ زین العابدين السّنوسي ،انظر الجزء الأول من صفحة 203 حتى صفحة 254 .

(6) ناصر الشاعر صديقه المغفور له الطاهر الحداد واضع کتاب : امرأتنا في الشّريعة والمجتمع الذي أثار  ردودا حارة وسخطا عنيفا .

(7) مجلة و العالم الأدبي / شعبان سنة 1353 – نوفمبر سنة 1934) .

(8) عن تطوع الأستاذ أبو شادى للاشراف على طبعه .

(9) بالمستشفى الايطالي  القديم بحي مونفلوری

(10) العالم الأدبي ديسمبر 1934 بقلم المغفور له البشير الفورتي عميد الصحفيين التونسيين .

 (11) أبّنه في ذكراه الأربعينية المرحوم الطاهر صفر أحد قادة الحركة الوطنية الممتازين إذ ذلك وأحد أعضاء الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري التونسي بما خلاصته : « تكلم الأستاذ صفر نيابة من قدماء الصّادقية على شاعرنا الفقيد فأکبر روحه الأدبية ونبوغه الشعری وأشار إلى الناحية الوطنية والاحساس الفيّاض التي كان الشّاعر يفيض به عن آمال بلاده وألامها وقد ذكر الخطيب أنّه اجتمع مع فقيدنا الشابّي في بلدة طبرقة حينما كان الشاعر في حال شديدة من الألم، وقد دار اذ ذالك الحديث بين الشاعر والزعيم في الوطنية مما يؤمله للشعب التونسي من التقدم ورثى الشاعر حال الشعب الآن ، وقد عبّر عن ذلك في قصيدة شعريّة وطنية نشرتها جريدة : العمل ، بعدد (23) : العالم الأدبي ، في ديسمبر سنة 1934 .

الأستاذ محمد الأمين الشّابّي

شقيق الشاعر أبو القاسم الشّابّي وأول وزير للمعارف للجمهورية التونسية بعد الاستقلال