تأبين المرحوم منصر الرويسي

MONSER

الأستاذ علي الشّابّي يؤبّن الفقيد المرحوم منصر الرويسي

 

 

بتاريخ الخامس من جانفي 2021 غادرنا إلى عالم أفضل الوزير الأسبق وعالم الاجتماع المرحوم محمد منصر الرويسي وعند مواراة جثمانه الطّاهر حضر  صديقه وحبيبه الأستاذ علي الشّابّي وقام بتأبينه بما نصّه:

بسم الله الرحمان الرحيم

الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر.

نودّع اليوم علَمًا من أعلام تونس وقفَ حياته عليها مناضلًا فذًّا ومسؤولًا قديرًا ومفكّرًا سياسيّا كبيرًا وأستاذًا جامعيًّا نابِهَ الذّكر ومُحاورًا عزّ نظيره.

نشأ الرّاحل المرحوم منصر الرويسي في بيئة دستوريّة اتّخذت لها من النّضال ضدّ المستعمر منهجًا ومن المنافحة عن استقلال تونس جوهرَ حياتها، وفي سبيل ذلك عرَفَتْ المنافيَ والسّجون فلم يزِدها ذلك إلّا صلابةَ عزمٍ وقوّة إيمانٍ وتألّقَ وطنيّةٍ واستماتةً في الدّفاع عن مبادئ الحزب الدّستوريِّ وأهدافه.

نشأ الرّاحل العظيم، وهو يشهد والدَهُ المناضل موسى الرويسي يُسْجَنُ ويُنْفَى من قِبَل المستعمر المرّةَ تِلْو المرّة كما كانت تتردّد على سمعِه غُربة خالِه المناضل يوسف الرويسي أحد المؤسّسين للحزب الدّستوريّ الجديد فتشكّلَ وجْدانُه بما أدركه منذ الصّغر لِيَحملَ تونس في قلبه حبّا ووفاءً وحين شبَّ عن الطّوق خاض غمار النّضال من خلال انتسابِه إلى الجمعيّات والمنظّمات الوطنيّة. وإنّك لواجدٌ في سيرتهِ الوطنيّة نضال الدّستوريّين ومجاهدة النّقابيّين وتجريبَ الشبّانِ المتطلّعين، وهو بما مَثَّله، صورةٌ حيّةٌ لشباب تونس النّاهض في ساعة العُسْرة وبُعَيْدَ الاستقلال: هي العزمُ الثّابت والوطنيّةُ المتوهّجة والفكرُ المتجدّد والتطلّع إلى ما هو أسْمَى وأسْنَى.

عُرِفَ في تعليمه الثّانويّ والجامعيّ بلَافِتِ ذكائِه وجميلِ سعْيِه ومثافنته للمشاكل والبحثِ لها عن حلول، ومِنْ ثَمَّ كان محرّكًا لكثير من الأحداث ظلّت تُتَناقلُ مع مُرور الأيّام مِن قِبَل رملائه حتّى لكأنّها علاماتٌ يُؤرّخُ بها لِما جَدَّ في مسيرتهم النّضاليّة أثناء الدّراسة. وخلال كلِّ ذلك عُرِفَ بزكيِّ لطفهِ وجميل تواضعِه وابتسامتِه التي لا تُفارق مُحيّاه.

 الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر.

لقد رحل عنّا الأستاذُ الجامعيُّ البارز والباحثُ النابهُ والوزير القدير. إنّ الطلبة الذين تتلمذوا عليه ارتبطوا به برباطٍ من المحبّةِ لا ينفصم لِمَا أفادوه من زكيِّ عِلمه ودقيق منهجِه ورائِع بيانِه، ولِما أحاطهم به من رعايةٍ ولُطفٍ لَافِتيْن. يلهج بذِكْرِه كلّ من عمِل معه أثناء تولّيه الوزارةَ، الوزارةَ تِلْوَ الوزارة، وزارة الشّؤون الاجتماعيّة، وزارة الثقافة ووزارةَ التكوين المهني والتشغيل ووزارة التربية وكذلك سفارة تونس في باريس ورئاسةَ الهيئةِ العليا لحقوق الإنسان، وهو ذِكْرٌ قِوامُه تواضعه اللّافتِ وفكرُه الإبداعيّ وإدارتُه النّاجحة وإنجازاتُه التي لا تَخْفَى، فلم يكن يَحتَكمُ قطّ في تسييره لشؤون الوزارة إلى أيّة إيديولوجيا وإنّما كان اعتمادُه في اختيار مسؤوليه من بين الجميع العدلَ والكفاءة بمنأى عن أيّ انتماء إيمانًا منه بأنّ الحرّيّة في الفكر هي السّبيلُ إلى إنماءِ القدراتِ الفرديّة والجماعيّة والأساس المكينُ لإرساخ الوطنيّةِ الجامعة والمدخلُ الحقيقيُّ إلى أيّ بناء ديمقراطيٍّ مُتجدّد.

لقدْ كان قبل تولّيه الوزارة وبعدَه مُستشارًا قديرًا عُرِفَ بثقتِه وبإبداعِه وصراحتِه وباهتدائه إلى اقتراح الحلول للمشاكل المستعصيّة، كما عُرِفَ بدعوتِه إلى الانفتاح على جميع التّيّارات لأنّ تونس تَسَعُ الجميع. ولم يكن يتردّد في إبداء آرائه حتّى ولو لم تكن منسجمةً مع السّائد وذلك دون مواربة ودون القيام بعمليّات حسابيّة نفعيّة. ويَعْرِفُ المطّلعون أنّ الرّاحل هو المقترِحُ لإنجازات كبرى تحقّقتْ في البلاد سواءٌ في مستوى الإدارة أو في مستوى السّياسةِ والحياة العامّة. لقد قضّى سِتِّين سنة من عمره في النّضال والإنجاز والثّبات على المبادئ ثباتًا لم يَعْدُهُ قطّ.

الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر.

رُحْماكَ يا إلهي. بفَقدِك أيّها الرّاحل العزيز فقدَتْ تونس أحدَ أعزِّ أبنائِها البررة، وانقضى ركنٌ من أركانِ فكرها السّياسيِّ عُرِفَ بِبُعْدِ نظرِه ورائِع تحليلِه ولافتِ اعتدالِه وسعيه إلى جمع الكلمة. إنّ الفاجعةَ لأليمةٌ والمصابَ لجلَل، وإنّا لفراقك لمحزونزن.

 

فالغُربةُ الهوجاء بعْدَك منصِرٌ //// أمواجُ حُزنٍ ما لهُنَّ قرارُ
ضَرمُ الحشا والنّائباتُ تَغُلّني  //// لرحيل بحرٍ لم تَطُله بحارُ
بحرٌ من الإنجاز غمْرٌ مَـــــدُّه  ////  أرأيتَ بحرًا في القبور يُزارُ
تمضي الحياة وحُزنُنا لا يَنقضي //// فالدّهرُ عادٍ والمنيّة دارُ

رحلتَ وقد تركْتَ في القلب لوعةً وفي الوجدان وَقْدًا مستعرًا لا ينطفئ إلّا بلُقْيَاكَ عند عزيز كريم، رحمانٍ رحيم. لقد انتهى حديث يوم الأربعاء إلى الأبد بعد أن كان واحةَ ظلٍّ نجد فيه الملاذَ والمتبتغَى توشّيه أسفارنا الفكريّةُ وتحليلاتنا السّياسيّة والاجتماعيّة واّلأدبيّة.

قد كنتُ أُوثِر أن تقول رثائي ////  يا مُنصفَ الموتَى في الأحياء

عند اشتداد مرضك كنتُ القاكَ – وأنتَ معتصمٌ بإيمانك القويّ بربّ العزّة- مبتسمًا كعادتك، تاركًا أمرَكَ له بنفسِكَ الرّضيّةِ وقلبكَ المطمئِنّ.

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)

رحمكَ الله رحمةً واسعةً وأسْكنكَ فراديسَ الجنان. إنّه سميع مجيب.